سمعت من الشيخ اليوم عن حلاوة المناجاة
فى خلوة بينك وبين ربك تناجية تبث لة بشكواك
يا من له تعنو الوجوه وتخشعُ * ولأمره كل الخلائقِ تخضعُ
أعنو إليك بجبهةٍ لم أحْنِها * إلا لوجهك ساجداً أتضرعُ
وإليك أبسط كف ذلٌ لم تكن * يوماً لغير سؤال فضلك تُرفعُ
أنا من علمت المذنب العاصي الذي * عظمت خطاياه فجاءك يُهرعُ
كم ساعة فرطت فيها مسرفاً * وأضعتُها في زائلٍ لا ينفعُ
كم بتُ ليلي كله متثاقلا * وذوو التقى حولي قيامٌ رُكعُ
كم بال في أُذنيَّ شيطانُ الكرى * فإذا الصباح على نؤوم يطلعُ
كم زينت لي النفس سوء فعالها * فأطعتها ضعفا فبئس الطَـيِّعُ
كم وسوس الخناس في صدري فلم * يجد الذي يعلو قفاه ويصفعُ
كم أقرأ الايات لو نزلت على * شم الجبال رأيتَها تتصدعُ
مالي أُردد وعدها ووعيدها * ما رق قلبي أو جرى لي مدمعُ
كم من نفوسٍ بالهدى ذكرتُها * فمضت كما يمضي الجواد المسرعُ
أيقظتها للخير حين تركتُني * في غفلة الدنيا أتيه وأرتعُ
يا حسرتا ! أعظ الأنامَ فليتَني * نفسي وعظتُ فوعظ نفسيَ أنفعُ
***
يارب حكمتك اقتضتني مذنباً * لأجيءَ بابك أستجيرُ وأضرعُ
فترى عُبيدَك تائباً مستغفراً * وأراك غفاراً لذنب يَفظُعُ
أنا إن عصيتُ فذاك مِن نقصي، ومَن * غير الأله له الكمال الأرفعُ ؟
يارب أنت خلقتَني من طينةٍ * ومن الذي لأصوله لا ينزعُ ؟!
لولا هداك ونفحةٌ عُلويةٌ * أودعتَها روحي لكان المصرعُ
فبها أصول على الترابِ ترفُعاً * وبها أُحلقُ حين تصفو الأضلُعُ
الطين يجذبُني إليه بشدةٍ ! * والروح تُصعِدُني إليك وترفعُ
فإذا ارتقيتُ إلى رضاك فغايتي * وإذا حبطتُ فدائماً أتطلعُ
***
هو الابتلاءُ عليه قام وجودُنا * وبه نُهيأُ للخلود ونُصنَعُ
النار بالشهواتِ خُفت فتنةً * فليمرح الفُجارُ وليتمتعوا
أما الجنانُ فإنها محفوفةٌ * بمكارهٍ تُدمي الفوائدَ وتوجِعُ
الزادُ قلَّ ! والديار بعيدةٌ! * والظَهرُ نضوٌ ، والرفيقُ مضيَّعُ
وهناك قُطاعُ الطريق طوائفاً * شتى، تُضِلُ عن المراد وتقطعُ
إبليسُ يُغوي ، والهوى شَرَكٌ له * والعَيْشُ يُغري ، والأماني تخدعُ
وهناك قُطاعٌ عُتاةٌ أعلنوا * حرباً تُخيفُ السائرينَ وتُفزِعُ !
جرؤوا عليكَ ، وأنت تحلِمُ عنهمو ! * ولكل شيءٍ عند ربي مرجِعُ
هذي الطريقُ وإنها لمخوفةٌ * ربِّ اهدني واعن ، عسى لا أُقطَعُ
***
يارب عبدك عند بابك واقفٌ * يدعوك دعوة من يخاف ويطمعُ
فإذا خشيتُ فقد عصيتُك جاهلاً * وإذا رجوتُ فإن عفوك أوسعُ
يارب إن أكُ في الحقوقِ مفرطاً * فلأنتَ أبصرُ بالقلوب وأسمعُ
بين الجوانحِ خافقٌ يهوى التُقى * ويضيق كُرهاً بالذنوبِ ويجزعُ
ويُحب ذكرك ، والقلوب إذا خلتْ * من ذكر ربي فهو بُورٌ بْلقَعُ
ولكم ذكرتُك خالياً فوجدتُني * والقلب في وجلٍ وعينيَ تدمعُ
هل لي رجاءٌ إنني ممن دعوا * يوماً إليك وقال : توبوا وارجعوا ؟!
وحملتُ مصباح الهدايةِ مرشداً * أهناك كالقرآن نورٌ يسطعُ ؟!
ومشيتُ في ركب الهداةِ وإن أكن * وأبطئتُ في طلب الكمال ، وأسرعوا
حسبي أُحِـبُّهُمُ وأقفوا خَطْوَهم * ولكم أرى حُب الأكابر يَشفعُ
يارب مالي غير بابِك مفزعٌ * آوي إليه إذا يَعزُ المفزعُ
مالي سوى دمعي إليك وسيلةٌ * وضراعتي، ولمن سوالك سأضرعُ؟!
إن لم أقف في الباب راجيَ رحمةٍ * فلأيِّ بابٍِ غير بابك أقرعُ؟!
إن لم يكن مني الذنوب ومنك أن * تعفو ، فأين اسمُ العفوِّ المُطمِعُ؟!
أين الغفور؟ وأين رحمتهُ التي * وسعت جميع الخلق؟ أين الموسِعُ؟!
هذا أوان العفو ، فاعفوا تفضلاً * يامن له تعنو الوجوه وتخشعُ
وهذه القصيدة هي للدكتور يوسف القرضاوي ، أنشأها وهو معتقل اعتقالاً انفرادياً في مبنى المخابرات المصرية ، في صيف 1962 م ، وهي مذكوره في كتابه "ابتهالات ودعوات".