قال الله جل ثناؤه: {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15-16].
وقال جل ذكره: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
وقال سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 41].
أحاديث الإعجاز:
روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحداً قطّ همّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك أو علّمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي، إلا أذهب الله همّه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً..".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وأبو يعلى
والبزار والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح
غير أبي مسلمة الجهني وقد وثّقه ابن حبّان، ورواه الحاكم
في المستدرك 1/509 .
التفسير اللغوي:
- الناصية: واحدة النواصي، الناصية والناصاه، لغة طيئية، قصاص الشعر في مقدّم الرأس. وقال الفرّاء في قوله عز وجل {لنسفعاً بالناصية}: مقدّم رأسه، أي لنهصرنّها، لنأخذنّ بها، أي لنقيمنّه ولنذلنّه.
قال الأزهري: الناصية عند العربي: منبتُ الشعر في مقدّم الرأس، لا الشعر الذي تسمّيه العامّة الناصية، سُمّي الشعر ناصية لنباته من ذلك الموضع.
- لنسفعاً: السفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة.
فهم المفسرين:
قال الألوسي في تفسير آية العلق: "ووصف الناصية بما ذكر مع أنه صفة صاحبها، للمبالغة حيث يدل على وصفه بالكذب والخطأ بطريق الأولى، ويفيد أنه لشدة كذبه وخطئه كأن كل جزء من أجزائه يكذب ويخطىء" وقال أيضاً: "وكأن تخصيص الناصية بالذكر لأن اللعين (أي أبا جهل) كان شديد الاهتمام بترجيلها وتطيبها، أو لأن السفع بها غاية الإذلال عند العرب…".
حقائق علمية:
- يحتوي دماغ الإنسان على فصوص رئيسية هي:
1- الفص الأمامي Frontal Lobe
2- الفص الخلفي Occipital Lobe
3- الفص الصدغي Temporal Lobe
4- الفص الجداري Parietal Lobe
- لكل فص دور وظيفي ينفرد به عن الآخر، وفي نفس الوقت هي مكملة لأداء وظائف الجسم الأخرى.
- بعد تشريح أعلى الجبهة وُجد أن الفص الأمامي للمخ هو العضو المستتر وراءها ويتميّز عن نظيره في الحيوان بأن المناطق المسؤولة عن السلوك وعن الكلام متطورة وبارزة من الناحية التشريحية والوظيفية.
- الفص الأمامي للمخ هو فصّ كبير يقع أمام الأخدود المركزي، وهو يحتوي على خمسة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة وهي:
1- مركز الحركة الأولي: Primary Motor Area: ويقوم بتحريك العضلات الإرادية للجهة اليسرى من الجسم.
2- مركز الحركة الثانوي (الأمامي): Secondary Motor Area: ويقوم بتحريك العضلات الإرادية للجهة اليمنى من الجسم.
3- الحقل العيني الجبهي: Frontal Eye Field: ويقوم بالتحريك المتوافق للعينين إلى الجهة المقابلة.
4- مركز بروكا لحركات النطق: Motor Speech Area of Broca: ويقوم بتنسيق الحركة بين الأعضاء التي تشترك في عملية الكلام، كالحنجرة واللسان والوجه.
5- القشرة الأمامية الجبهية Pre-Frontal Cortex: وتقع مباشرة خلف الجبهة وهي تمثل الجزء الأكبر من الفص الأمامي للمخ، وترتبط وظيفتها بتكوين شخصية الفرد ولها أيضاً تأثير في تحديد المبادرة (Initiative) والتمييز (Judgement).
6- بما أن القشرة الأمامية الجبهية تقع مباشرة خلف الجبهة فهي تختفي في عمق الناصية وبذلك تكون هي الموجهة لبعض تصرفات الإنسان التي ترتبط بشخصيته مثل الصدق والكذب والصواب والخطأ، وهي التي تميّز بين هذه الصفات وبعضها البعض.
7- بيّنت دراسات المخ الإلكترونية ودراسات وظائف الأعضاء الكهربية أن المرضى والحيوانات التي تعرضّت لتلف الفلقات الجبهية الأمامية، فإنهم غالباً ما يُعانون من تناقص في قدراتهم العقلية، كما تم الكشف على أن أي خلل يصيب الفص الأمامي يغير السلوك الطبيعي للإنسان وقد يصل إلى صدور تصرفات شريرة وهبوط في المعايير الأخلاقية والتذكر والقدرة على حل المشكلات العقلية.
8- تعتبر الفلقات الجبهية الأمامية للمخ مركز المبادرة بالكذب، ففيها تتم الأنشطة العقلية المتعلقة بالكذب ثم تحمل تعليماتها بأعضاء المراسلة خلال فعل الكذب، وكذلك الأفعال الشريرة فإنها تُخطط في الفلقات الجبهية الأمامية قبل أن تُحمل إلى الأعضاء المباشرة للفعل.
9- إن القشرة الأمامية الجبهية المختفية في عمق الناصية هي المسؤولة عن التصرفات الخاطئة لأنها مركز التوجيه والضبط لتصرفات الإنسان.
التفسير العلمي:
قال الله تعالى في كتابه المجيد: {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15-16].
والناصية في اللغة هي مقدم الرأس أو أعلى الجبهة، وقد ذكر العلماء في تفسير هذه الآية أي لنأخذنّ بناصية أبي جهل ولنسحبنّه بها إلى النار يوم القيامة.
فالقرآن الكريم يصف ناصية أبي جهل بأنها كاذبة خاطئة ولذلك استحقّت السفع، والسؤال الذي يلفت ذوي النظر هنا هو: لماذا لم يوصف أي جزء آخر من الجسم بصفة الكذب والخطأ؟ وحيث إن ناصية أبي جهل "كاذبة خاطئة" فإن نواصي من ليسوا على شاكلته يمكن وصفها بأنها صادقة ومصيبة وهذا يدل دلالة واضحة على أن الناصية وهي أعلى الجبهة هي المسؤولة عن صفات مثل الصدق والكذب والخطأ والصواب.
ولقد ذكر القرآن الكريم أيضاً الناصية في سورة هود فقال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي تحت قوته وقدرته" وقال الطبري: "لا يوجد شيء يتحرك فوق هذه الأرض ما لم يكن مملوكاً أنّى شاء ويمنعها عما يشاء"، إذاً فالله تعالى ذكر أنه يُوَجّه كل مخلوق بمشيئته وأن ذلك يتم من خلال التحكم في ناصية المخلوقات كلها، فالمفهوم من الآية إذن أن الناصية هي الموقع الذي يتحكم في تصرّف كل ما يدبّ على الأرض (من إنسان وحيوان).
هذا وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده إشارة إلى هذا المعنى، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضي فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك..".
فالحديث يبيّن أن قدر الإنسان بين يدي الله كما أن ناصيته أيضاً بيد الله ولذا فهو يدل دلالة إشارية كآية العلق وهو على أن الناصية تؤدي دوراً كبيراً في توجيه وضبط سلوك الإنسان.
إذن: القرآن الكريم والحديث الشريف يقرران بأن الأخذ بالناصية هو إشارة إلى السيطرة الكاملة على كل دابة على هذه الأرض، والسيطرة تقابلها الطاعة الكاملة والانقياد التام، والأخذ بالناصية هو السبيل إلى ذلك.
والآن ما هو الشيء الكامن وراء هذه الناصية؟ وما هو العضو الخفيّ وراء أعلى الجبهة؟ ذلك العضو المسؤول عن شخصية الفرد والمتحكم في تصرفاته وأفعاله من صدق وكذب وخطأ وصواب والذي يمكن بالهيمنة عليه السيطرة على الشخص نفسه كما ورد في كتاب (تشريح المادة الرمادية) لـ "وارويك" و "وليام".
لقد وجد علماء التشريح عند دراستهم التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة أنها تتكوّن من العظم الجبهي Frontal Bone ويقوم هذا العظم بحماية أحد فصوص المخ الأربعة والمسمى الفص الأمامي أو الجبهي، وبذلك يكون الفص الأمامي للمخ هو العضو المستتر وراء أعلى الجبهة، وكما وجد العلماء أن هذا الفص يحتوي على خمس مراكز عصبية منها القشرة الأمامية الجبهية وهي تمثل الجزء الأكبر منه، وهي تقع خلف الجبهة مباشرة أي أنها تختف في عمق الناصية، وهنا تساءل علماء التشريح ما الذي يحدث للإنسان إذا أزيلت القشرة الأمامية الجبهية بعملية جراحية؟ أو إذا تلفت نتيجة ورم؟ فوجد أن تحطم هذه القشرة نتيجة للأورام أو الحوادث يؤدي إلى فقدان الشخص المبادرة (Initiative) والتمييز (Judgement)، كما تحدث بعض التغييرات العاطفية التي تؤدي إلى الإحساس بالانتعاش والنشوة (Euphoria)، ويفقد الشخص أيضاً اهتمامه بمظهره الاجتماعي. كما وجد علماء التشريح أن أي خلل يصيب القشرة الأمامية الجبهية يؤدي إلى تغيرات في سلوك الإنسان حيث يصبح غير مبال، فاقداً الشعور بالمسؤولية، وغير قادر للسيطرة على سلوكاته وهذا ما ذكره "تشاريس" في كتابه (جهاز العصب الإنساني).
وقد بينت دراسات المخ الإلكترونية ودراسات وظائف الأعضاء الكهربية أن المرضى والحيوانات التي تعرّضت لتلف فلقات القشرة الأمامية الجبهية غالباً ما يعانون من تناقص في قدراتهم العقلية، وهبوط في المعايير الأخلاقية، وتنقص قدراتهم على التركيز وروح المبادرة والتحمل. ولقد استنتج الأطباء أن الفلقات الأمامية الجبهية هامة جداً للعقل لأنها ترتبط بالعمليات العقلية العليا، فالإنسان يقوم بإجراء الخطط داخل هذه الفلقات. وهكذا فإنها تؤثر في أفعال ووظائف أجزاء المخ الأخرى مثل الأفكار والمشاعر والأحاسيس كما أنها المسؤولة عن التصرفات الخاطئة لأنها مركز التوجيه والضبط، وهذا ما ذكرته الموسوعة البريطانية.
والآن وبعد أن وصلنا إلى هذه الحقيقة العلمية نفهم لماذا أشار القرآن الكريم إلى دور الجبهة (أو الفلقات الأمامية) في صناعة القرار، ولكن هذه المعرفة التي هي بين أيدينا اليوم كانت بعيدة حتى عن التخيل في العصور المبكرة. ويتجلى لنا مدى الصعوبة التي لاقاها المفسرون في الماضي في فهم المعنى الحرفي للآيات، ولو أن بعضهم قد أشار إلى أن الكذب والخطأ مرتبطان بالناصية ذاتها (كالألوسي، وابن كثير، والرازي)، وهو ما لم يكن معلوماً للأطباء في ذلك الوقت. ولم تتم معرفة وظائف الناصية إلا بعد الدراسات المتعمقة لوظائف الأعضاء وباستخدام علم التشريح المقارن.
مراجع علمية:
جاء في الموسوعة البريطانية ما ترجمته:
"إن المادة الرمادية من اللحاء الدماغي تنقسم إلى أربعة فصوص، تعرف تقريباً من سطوح الفصوص الرئيسية، وأحياناً النظام اللمبي (Limbic system) أو الفص اللمبي يعتبر فصاً خامساً".
"إن الفص الأمامي يحتوي على مراكز التحكم المسؤولة عن النشاط الحركي والمخاطبة، وفي الفص الجداري عن الأحاسيس الجسدية (كاللمس والموقع)، وفي الفص الصدغي عن الاستقبال السمعي والذاكرة، أما الفص الخلفي في مؤخرة الدماغ فهو يحمل مركز الاستقبال البصري الرئيسي".
"إن الفص الأمامي يهتم بأكثر مكونات الذكاء (البصيرة، التخطيط، والفهم) وبالمزاج وبالنشاط الحركي في الجهة المقابلة للجسم و (في حالات سائدة على نصف الكرة الأرضية) بإصدار الخطاب".
"إن تلفان الفص الأمامي يؤثر على الناس بعدة أوجه والحالات الناتجة تكون ما بين البسيطة والشديدة. من ناحية أولى، يكون عند المرضى صعوبة في إبداع تصرفاتهم، وفي حالات المرض النهائية يكونون عملياً غير قادرين على الحركة أو الكلام، ولكن الأكثر غالبية هو صعوبة القيام بأية مهمة. ومن ناحية أخرى، يكونون غير قادرين أساساً على إيقاف تصرفاتهم إذا شرعوا بها، وبعض الأشخاص من الممكن أن تكون عندهم صعوبة في التخطيط وحل المشاكل وغير مؤهلين للإبداع والتفكير".
"الطيش وتغيّر الشخصية يلاحظان بشكل متكرر بعد تعطل الفص الأمامي".
وجه الإعجاز:
وجه الإعجاز في الآية القرآنية والحديث النبوي الشريف هو أنهما أشارا بدقة علمية متناهية إلى أن القشرة الجبهية الأمامية المختفية في عمق ناصية الإنسان هي مركز القرار عنده لضبط تصرفاته من حيث الصدق والكذب والخطأ والصواب والاتزان والانحراف، وهذا ما كشفت عنه الدراسات العلمية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين.