قال لي صديقي :
- أنعيش في كذب دائم ؟ ألا يوجد صدق ؟
قلت له :
- بل نحن نصدق دائما و لكنه صدق محدود ، صدق لحظتها .... كلماتنا عمرها عمر الرسم علي الماء و النقش علي الرمال .... و هي في العادة صادقةفي حدود هذا العمر القصير إلا فيما ندر
- و بعد ذلك
- بعد ذلك تتغير الظروف و تتبدل الملابسات و تمتحن العواطف و الأعمال ... و تبتلي النفوس في جواهرها و تتقلب القلوب .... و يأتي بعد الليل النهار و بعد النهار الليل .... فنحن علي أرض تدور ... أليس كذلك؟
- ألا يوجد حب يصمد للإمتحان ، ألا يوجد حب باق؟
- أحيانا ... و لكن هذا الحب الباقي في العادة تعيا عن حمله الكلمات ... والذي يحب هذا الحب إذا حاول أن يعبر عن نفسه لا يخرج منه إلا كلام عبيط .... أو عبارات بلا معني .... و مثل هذا الحب يكون في أغلب الأحوال أزمة في الصدر و عطشا خلف الضلوع لا ارتواء له و لا حل له .
- إني أتمني أن تحبني امرأة هذا الحب.
- إني لا اتمني أن تحبني امرأة هذا الحب ابداً.
- لم؟
- لأن المرأة التي تحب هذا الحب لا تسامح .... إنها تري نفسها قد أعطت روحها فلا أقل أن تأخذ روحي , و الذين يحبون هذا الحب هم بين قاتل و مقتول و أنا لا أحب أن أكون أحدهما .
- بل هو الحب الرائع .
- بل هو الإشراك بعينه و عبادة المخلوق من دون الخالق ، و هذا ما قاله الإمام الغزالي في حب المرأة الواحدة إذا كان استغراقاً و صبابة .... و قال إنه السقوط في الشرك .... و لهذا اباح الإسلام تعدد الزوجات ليحول دون الاستئثار .... و حتي لا يكون التوحيد إلا لله .
- و هل تظن أنك تختار قدرك .... ألا يمكن أن يداهمك هذا النوع من الحب برغم أنفك , فلا تملك منه فكاكا؟
- إنه يكون مصيبة ... وكارثة و اسراً .... و سجناً ... و أغلالاً .... و مثثل هذا الحب لا يكتبه الله إلا علي عبد غضب عليه و لعنه و أضله و أرجو ألا أكون من المغضوب عليهم و لا من الضالين .... و أرجو أن أعرف معبودي فلا أضل عنه و أنه هو الله وحده جامع الكمالات الأجما من كل جميل .... مهوي الأفئدة و سكن الأرواح .
- و ماذا للمرأة المثلي عندك ؟
- لها عندي المودة و الرحمة و الصحبة الطيبة .... و لا أكثر .... لا غل و لا قيد و لا أسر ... و إنما ضيافة كريمة يستضيف فيها كل منا الآخر مدي أيام الدنيا الشقية و يعاونه علي تحملها .
- سوف أعيش و أفرح فيك و أراك بإذن الله في الأسر و الغل و القيد غريقا لشوشتك في أذيال امرأة حتي تتوب عن تعذيبنا.
- تبت .... و لا داعي للبلاء ... اللهم لا تدخلنا في تجربة .... اللهم لا تكتب علي إلا حبك.
- و هل يتنافي حب الله مع حب الناس ؟
- بل هو يدعو إلي حب الناس و لكن بلا غل و بلا قيد و بلا عبودية .... حب المودة و الرحمة ... لا سعار الغرام و ضرام الشهوات .
- و هل يمكن أن يغنيك حب الله عن الحاجة إلي غرام بشري؟
- نعم ... إذا استطعت أن أفهم معني النظر إلي وجهه و معني أن كل شئ هالك إلا وجهه ... و معني أن عشق الهالكين هو الهلاك معهم و أن حبه وحده الخلاص و العتق و الحرية .
- وكيف تنظر إلي وجهه ؟
- استشفه في صدح الطيور و في نور الفجر و في جناح الفراش و في بصمة الأصبع و في عطر الوردة و في العدل المستتر وراء الألم و الحكمة الخافية في العذاب .... و أشعر به في استسرار الليل و إبهام الموت و طلسم القدر .... و أحس به في الحقائق التي تُلقي في عقلي بلا لغة و بلا عبارة و في السكينة التي تسعفني ساعة الخطر و في الوضوح الرائع الذي يتجلي علي لحظة الخطر ... و في الإحساس الحميم بالصحبة و الونس و أنا وحدي ، و فيما هو أكثر من ذلك من لطائف الأسرار التي يمكن أن تحدث بين العبد و ربه مما لا يكتب و لا يقال .
- أهناك شئ مما لا يمكن أن يقال .
- كل ما هو مطلق لا يمكن أن يقال.
- و كيف نعرفه؟
- لا نعرفه و لكن نكابده .... إحساسك بذاتك مكابدة و ليست معرفة و مع ذلك، فهي أعلي من جميع المعارف في درجة اليقين .... ذاتك أمر لا يرقي إليه شك .... و مع ذلك ، فهي أمر لا يمكن أن يتوضح كما تتوضح سائر المعارف .... و الحقائق العليا كلها مكابدات و ليست معارف .... و المتصوفة يسمون هذا الإحساس بالله .... حضورا و حضرة.
- و هل يمكن أن نصل إلي هذه الحضرة بالإجتهاد ؟
- لا نستطيع إلا أن يساعدنا هو.
- و هل دخلت هذه الحضرة؟
- أنا أبعد الناس عن هذا الشرف , و أنا حالي مثل حالك و مثل حال الذي دفناه اليوم و مثل حال الخطائين الذين يتقلبون مع الليل و النهار .... و لكني أحاول .... مجرد محاولة.
مما خاطب روحي و عقلي للدكتور مصطفي محمود ....